إن أغنيتنا المختارة بما تقتضي مقاييس الجودة وبما نؤمل ونرجّي هي أغنية تراثية ربت على القرنين من الزمان وتندرج في أدبنا الموروث تحت باب الرثاء أو قل المناحة وهي من النواح الذي يرد في بعض البلاد العربية باسم النياحة. وكما هو معلوم فإنّ النواح أو الرثاء يحمل في مدلوله الإنطباعي ملامح الحزن الموجب للفجيعة والإنكسار ولكننا ومن خلال الإطلاع المتواضع على المشابه في بلاد عربية أخرى، وجدنا أنّ هذا الباب في أدبنا الشعبي تغلب عليه معاني الشجاعة والحكمة والتحدي والمديح المتعدد الجوانب والمرامي ولا غرو إذ أنّ المخاطب في تلك المناسبات وأشباهها هم الأحياء لا المتوفى في رسالة واضحة المعاني تتلخص في أنّ إنكاركم لذواتكم أثناء حياتكم وما قدمتم من خيّر الأعمال لن يقدر الموت على طمسه أو سلبه منكم فهو محفوظ لكم و . . (شكّار نفسه إبليس – والله ما يجيب يوم شكركم). وهذه المناحة قالتها بنونة بت (إبنة) ألمك نمر رأس قبيلة الجعليين بمنطقة شندي والمتمة وهو صاحب التاريخ المعروف مع إسماعيل بن محمد علي باشا، قالتها في أخيها عمارة الذي توفاه الله على فراش المرض وهي ميتة سهلة ما كانت تريدها لإخيها وهو الفارس المغوار. كانت تتمنى لو أنّه مات في ساحة الوغى وتوشح بدمائه. تقول بنونة:
ود المك عريس خيلا بجن عركوس
أحيّ علي سيفه البحد الروس
دايراك يوم لقى بدميك تتوشّح
الميت مسولب والعجاج يكتح
أحيّ علي سيفه البسوي التح
مرناً مو نشيط إن قبّلن شاردات
أسد بيشه المكرمد قمزاته متطابقات
برضع في ضرايع العنّز الفاردات
ودرعك في أم لهيب زي الشمس وقّاد
وسيفك من سقايته إستعجب الحدّاد
وقارحك غير شكال ما بقربه الشدّاد
يا مقنع بنات جعل العزاز من جم
الخيل عركسن ما قال عدادهن كم
فرتاق حافلن ملاي سروجهن دم
إنّها تنفي عن الممدوح أن يكون متل ذلك النبات الرخو (الفافنوس) الذي ينمو على ضفاف النبل ويسهل قطعه وربما كانت الكلمة نوبية قديمة شأنها شأن أكثرية المسميات المتصلة بالنيل. ثم نفت عنه كذلك أن يكون كالقناة أو القصبة الجوفاء التي يسهل كسرها ثم أثبتت أنّه إبن المك بلا نقصان وأنّه عريس خيل وهو تعبير متعامل به بين العرب في جزيرتهم وأحيانا يقولون (إنّه أخو خيل) كناية عن الفروسية. يقول ألشاعر المعروف أحمد بك شوقي في رثائه للثائر عمر المختار: (بطل البداوة لم يكن يغزو على تنك ولم يك يركب الأجواء – لكن أخو خيل حمى صهواتها فأدار من أعرافها الهيجاء) وعركوس كلمة عربية فصيحة تفسرها المعاجم بالكثرة والتجمع. وعركست الخيل أي تجمّعت. وتواصل بنونة رسم صورها الرائعة فتبدي أسفها على تلك الميتة السهلة التي يكون فيها البكاء والعويل وتذري فيها النسوة الرماد على رؤوسهن وهو التفسير الذي أرجّحه على سواه، إذ أنّ البعض قد ذهب إلى رؤية أخرى. ثم تذكر بأنّ الممدوح في كل المعارك في موقف الهجوم أو الورود والضمير هنا (إن وردن) للخيل فهو في المقدمة أمّا في موقف الفر فهو المتأخر المتباطيء على الدوام، أمّا بيشة الواردة في النص فهي المنطقة المعروفة الآن بهذا الإسم في الجزيرة العربية وكانت مأسدة عرفت بضراوة سباعها. ونجد بعض الكلمات التي تتسم بالوضوح كالكوفية والخوده وهي الخوذة وبولاد هي فولاذ وقد قلبت الفاء باء، وربما كانت هي الأصل، وأم لهيب من أسماء الحرب وفي آخر مرثيتها تشبّه الممدوح بجرعة السم المركّز وأنّه الستر لكل فتيات قبيلة الجعليين وهي القبيلة التي اشتهرت بالعزّة والفروسية والتصدي للظلم والضيم. وهذا شرح موجز لهذه الأغنية الرائعة التي يمكن الإسترسال المسهب في إيحاءآتها المتعددة ولكننا محكومون بأكثر من متطلب للإيجاز ، فقط أود أن أشير إلى ما درجت على ألإشارة إليه هو أن نحافظ علي تراثنا الحبيب وأن نحفظ الحق وأن نشيد بالدور الإبداعي للجهة التي يصدر عنها ومنها مثل هذا الإبداع التربوي الرائد الرائع وذلك قبل مناداتنا بأن نتعامل معه بوصفه التراث الملك المشاع الذي صدر منا جميعا لنتعامل معه وبه جميعا إذ ما أحوجنا إلى هذه القيم التي تجمعنا فنلتقي في جمالياتها، بعيدا عن العصبية